في وداع محمد بنعيسى: رثاء لروح أصيلة

0
61

عبد اللطيف وهبي
وزير العدل المغربي

رحيل محمد بنعيسى، الوزير السابق للثقافة، والدبلوماسي البارز، ومؤسس مهرجان أصيلة الثقافي الدولي، ترك أثرًا بالغًا في قلوب المغاربة، خاصة من عرفوا الرجل عن قرب. فقد استطاع أن يحوّل مدينة أصيلة الصغيرة إلى منارة ثقافية عالمية، وأن يكرّس حياته لخدمة الفن، والفكر، والحوار بين الحضارات.

في هذا النص الحميمي، يستحضر عبد اللطيف وهبي، وزير العدل وصديق الراحل، ملامح من صداقتهما الطويلة، ويكتب بصدق وألم عن الغياب، عن المدينة التي أصبحت يتيمة، وعن القطار والبحر اللذين طالما تحدثا عنهما. رسالة وداع لصديقٍ كان روح أصيلة ووجهها الثقافي.

رسالة إلى روح الصديق محمد بنعيسى

ها أنت ترحل يا صديقي. للمرة الأولى، تخلف موعدنا. تغادر أصيلة، مدينتك، بلا كلمة وداع، بلا نظرة أخيرة إلى الوراء. خلفك تبقى هي وحيدة، بلا شاعر يغازلها، بلا صوت يدافع عنها. تواجه الآن هدير البحر ومرور القطار اللامبالي – ذلك القطار نفسه الذي كنت تلعنه لأنه لا يتوقف عندها. القدر القاسي اختطفك، وترك أصيلة حائرة بين عنفين: عنف الأمواج وعنف التقدّم الذي يمرّ دون توقّف.

كنتَ تشتكي من زياراتي النادرة، وتغضب من ذلك القطار الذي يتجاهل مدينتك. واليوم، أنا وأصيلة نشترك في إحساس واحد: الاختناق.

أتذكر أحاديثنا الطويلة على شرفتك المطلة على الحديقة. كنّا نتحدث عن السياسة، عن الثقافة، عن التاريخ والمستقبل… وغالبًا ما كنّا نهرب من الحاضر لأنه كان يُتعبنا. كنتَ مسيحيًا في السياسة، تبشّر بالصبر والهدوء والتأمل. كنتَ تُصغي كثيرًا، ثم تأخذني جانبًا لتغرقني بالأسئلة، وأحيانًا أعجز عن الإجابة – فواقعنا قاسٍ يصعب فهمه.

كنتَ تؤمن بالثقافة، وكنتُ أنا أبوح لك بشكوكي حول العدالة. لكن في العمق، الاثنان مرتبطان. الثقافة هي عدالة، والعدالة يجب أن تكون ثقافية. أصيلة كانت معركتك. واليوم، هي يتيمة. القطار ما يزال يمرّ دون توقف، والبحر ما يزال يُهدد، لكنك لم تعد هنا لتحميها.

أنتَ الذي كنت تعرف كيف تعطي دون وعد، وتعرف كيف تُغري دون امتلاك، كنتَ الدبلوماسية تمشي على قدمين. جعلتَ من أصيلة مدينة أمل وجمال وتبادل. والآن؟ من سيكلمها عن المستقبل؟ من سيحمل أحلامها؟

صديقي بنعيسى،
أخشى أن يمحو الزمن كل شيء. أخشى النسيان. وفي هذا البلد، الآفة الحقيقية هي احتقار الذاكرة. لقد جعلتَ من أصيلة عاصمة للثقافة، منارة ضد الجهل. كان الناس يأتون إليك قبل أن يأتوا إلى المدينة. اليوم سيقولون ربما: « لنذهب إلى أصيلة الأرملة ». وعليها أن تُنجب مسيحًا جديدًا يحبها كما أحببتها، ويُعيد إليها وهجها.

لا أستطيع أن أودّعك، لأنني أرى فيك أصيلة. ولا أستطيع أن أنسى أصيلة، لأنها تذكرني بك. ربما الموت أرحم من هذا العالم الذي ينسى سريعًا. ربما، برحيلك، أنقذت مدينتك مرة أخرى، كما فعلت في الماضي.

فدع القطار يواصل سيره بلا توقف، ودع البحر يزأر. أنتَ الآن أبدية أصيلة.

عبد اللطيف وهبي


ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا