في زمنٍ تُقاس فيه الإنتاجية بعدد التطبيقات وسرعة الاستجابة، يعيش كثيرون تجربة يومية مُرهقة: يبدأون نهارهم بنية التركيز والإنجاز، لكنهم ينتهون غارقين في سيل لا ينقطع من الإشعارات والرسائل والتنبيهات. والنتيجة؟ شعور دائم بالتعب والإحباط، مع إنجاز فعلي يكاد يكون معدومًا.
هذه الظاهرة تُعرف بـالإنهاك الرقمي، وهي تهديد متصاعد للصحة النفسية والإنتاجية المهنية في عالم يحتفي بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتواصل الدائم.
فرغم وعود الأدوات الرقمية بزيادة الكفاءة، فإن الإفراط في استخدامها أدى إلى فقدان السيطرة على أهم موارد الإنسان: الانتباه.
ووفقًا لدراسة نشرتها مجلة فوربس حول بيئات العمل الرقمية في الولايات المتحدة:
- 79% من الموظفين يرون أن مؤسساتهم لا تتخذ أي إجراءات جادة لمواجهة الإنهاك الرقمي.
- 60% يشعرون بضغط دائم للبقاء متاحين حتى خارج أوقات العمل.
- موظف واحد من كل خمسة يهدر أكثر من ساعتين أسبوعيًا في التنقل بين التطبيقات والنوافذ.
- 45% يعتقدون أن الأدوات الرقمية أصبحت عائقًا أمام إنتاجيتهم.
هذه الأرقام تكشف أن ما يُعرف بـ »التحول الرقمي » لم يُحقق دائمًا ما وُعد به، بل ساهم أحيانًا في تشتيت التركيز واستنزاف الطاقة الذهنية، مما جعل الإبداع في العمل أمرًا نادر الحدوث.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى بيئات العمل، كان الهدف تخفيف الأعباء. لكن في كثير من الحالات، جرى توظيف هذه التقنيات في بيئات غير مؤهلة، مما زاد الفوضى بدلًا من الحد منها.
تقرير عالمي صدر سنة 2025 أظهر أن 70% من الموظفين يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي، لكن 84% منهم يعانون من الإنهاك الرقمي. ويُعزى ذلك إلى ما يُعرف بـ »المخرجات الجوفاء » — نتائج ظاهرها مبهر، لكنها تفتقر للجودة وتحتاج لتدخل بشري كبير لتصحيحها.
المشكلة ليست في التقنية نفسها، بل في غياب رؤية واضحة ومعايير فعالة لكيفية استخدامها.
ولمواجهة هذه الظاهرة، لا يكفي تحميل تطبيق جديد، بل يجب تبنّي ثقافة رقمية متوازنة، تقوم على خمس قواعد أساسية:
- الأقل أكثر فاعلية: احذف الأدوات الزائدة وغير الضرورية، فكل تطبيق إضافي يستهلك من طاقتك الذهنية.
- التحكم في الانتباه: ضع حدودًا واضحة للتواصل، وافصل بين ما هو عاجل وما يمكنه الانتظار.
- تعلم ذكي: اختر محتوى تدريبيًا مركزًا ومباشرًا، بدلًا من إضاعة الوقت في ساعات من المعلومات المشتتة.
- قياس الأثر الحقيقي: قيّم النجاح بجودة النتائج، وليس بعدد الساعات أو الرسائل.
- التركيز على هدف واحد: حدّد هدفًا رئيسيًا لكل أسبوع، واجعل مهامك تصب في خدمته.
في النهاية، التحدي الأكبر اليوم ليس امتلاك أحدث الأدوات، بل استعادة السيطرة على وقتنا وانتباهنا.
فالتكنولوجيا التي صُممت لخدمة الإنسان، قد تتحول إلى عبء ثقيل إذا فقدنا زمام استخدامها. والثمن؟ صفاء الذهن، الراحة النفسية، وجودة الحياة.